بسم الله الرحمن الرحيم
المتصفح في تاريخنا الإسلامي يجد لعلماء الإسلام صفحات مشرقة ناصعة يقف المتأمل أمامها طويلا , سطرها هؤلاء العلماء بمواقفهم وأفعالهم قبل خطبهم وكتبهم في نواحي شتي وجوانب مختلفة من حياة الأمة, فقد قاموا بتعليم الأمة أمور دينها, وتوجيهها إلي ما فيه الخير لها في شئون دنياها, والحفاظ علي هويتها وثقافتها, وحثها علي الثبات والصمود في مواجهة أعدائها ومن يكيدون لها, وواصلوا مسيرة الدعوة الإسلامية حملا للأمانة وتأدية للرسالة التي حملهم إياها نبينا الكريم محمد صلي الله عليه وسلم.
وعلي مدار تاريخنا الإسلامي نجد العلماء في طليعة الأمة يبغون رضا الله تعالي, والفوز في الآخرة, ويعملون للرقي والنهوض بالأمة, ويقومون بمواجهة التحديات ولأخطار, فكانوا هداة ومرشدين وقادة ومصلحين وزعماء ومجددين.
ومن هؤلاء الأعلام في تاريخ أمتنا الإمام العز بن عبد السلام, الذي عاصر أحداثا جساما, وخطوبا وشدائد عظاما, فكانت له مواقفه الحاسمة التي تعتبر معلما بارزا في تاريخ أمتنا, وأسوة يحتذي بها لأهل العلم في زماننا هذا أن يتعلموا من هذا العالم العلم .
اسمه:‘‘ عبد العزيز بن عبد السلام بن أبى القاسم بن حسن بن محمد بن مهذب السلمي الدمشقي الشافعي، ولد سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة، وتوفى سنة ستين وستمائة’’).
طلبه للعلم: بدأ العز – رحمه الله – فى طلب العلم منذ صغره على أيدي جماعة من علماء عصره ‘‘ فتفقه على الشيخ "فخر الدين بن عساكر"()، وقرأ الأصول على الشيخ "سيف الدين الآمدي() وغيره، وسمع الحديث من الحافظ "أبى محمد القاسم"() بن الحافظ الكبير أبى القاسم بن عساكر، و"عبد اللطيف بن إسماعيل بن سعد البغدادي"، و"عمر بن محمد بن طبرذد"()، و"حنبل بن عبد الله الرصافى"() والقاضي "عبد الصمد بن محمد الحرستاني"() وغيرهم ’’().
وبذلك نجد أنه توفر للعز – رحمه الله – مجموعة كبيرة من الأئمة الأعلام فنهل من معينهم، وتلقى فنون العلم على أيديهم، وكان يجد فى كل علم من العلوم وفن من الفنون علماء أكفاء وأساتذة فضلاء، يوجهون طلابهم وجهة مثلى، فنشأ – رحمه الله – فى كنفهم يتلقى عنهم حتى أصبح العز – رحمه الله – ‘‘ شيخ الإسلام وأحد الأئمة الأعلام، وأصبح إمام عصره بلا منازع، ولقب بسلطان العلماء لما قام به من جهد فى سبيل نصرة الدين ورفع رايته ’’().
وكانت له مواقف عظيمة تدل على جرأته فى الحق، وشدته على أهل الباطل، ونصرته للضعفاء والمظلومين، وأخذه الحق من المتكبرين ولو كانوا أمراء وسلاطين.
حياته ببلاد الشام: كان – رحمه الله – داعية من طراز فريد قل أن يجود الزمان بمثله، بدأ حياته – رحمه بالتدريس والخطابة.. درس بدمشق أيام مقامه بها بالزاوية الغزالية وغيرها، وولى ا لخطابة والإمامة بالجامع الأموي وأزال كثيراً من البدع التي كان الخطباء يفعلونها.
ومن خلال التدريس والخطابة بدأ العز حياته الدعوية كما قيل عنه بأنه ‘‘ درس وصنف وأفتى، وبرع في المذاهب، وبلغ رتبة الاجتهاد، وقصده الطلبة من البلاد، وتخرج علي يديه أئمة، وأصبح له الفتاوى السديدة، وكان ناسكاً ورعاً، أماراً بالمعروف، نهاءً عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم ’’().
واستمر العز على هذا الحال بدمشق يخطب ويدرس ويفتى الناس ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
‘‘ ولما تملك الصالح إسماعيل دمشق، وأعطى الإفرنج صفد() والشقيف () ذمه بن عبد السلام على المنبر، وترك الدعاء له، فعزله وحبسه ’’().
· وذكر أنه لما عزله الصالح إسماعيل عن الخطابة أرسل له رسولاً من قبله يقول له: ‘‘بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان، وتقبل يده لا غير.
فقال له: والله – يا مسكين – ما أرضاه أن يقبل يدي فضلاً عن اقبل يده.. يا قوم أنتم في واد وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به.
فقال له: قد رسم لي إن لم توافق على ما يطلب منك وإلا اعتقلتك.
فقال: افعلوا ما بدا لكم ’’().
وبذلك نجد أن العز يرفض أن يتصالح أمير بلدته مع الصليبيين مقابل التنازل عن أرض المسلمين، ويعلن رأيه في قوة وشجاعة.
وهذا علي خلاف ما نجده في زماننا هذا ممن يتزيون بزي العلم ويتمسحون بألقاب العلماء من خنوع وذلة واستكانة ويقدمون ما يشتهيه الأمراء والسلاطين بل والظلمة والمجرمين علي ما يأمرهم به رب العالمين ويوجبه عليهم دينهم والعلم الذي يحملون شيئا منه.
انتقاله إلي مصر: بعد حبسه بفترة أطلق سراحه فتوجه إلى مصر فتلقاه أهلها بالترحاب، وبالغوا فى إكرامه وعلى رأسهم السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب() ‘‘ وولاه خطابة جامع عمرو بن العاص بمصر والقضاء بها وبالوجه القبلى مدة ’’ ().
وظل العز رحمه الله – متمسكاً بمبادئه داعياً الناس إلى الالتزام بتعاليم الإسلام، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، متحملاً فى ذلك الشدائد والمحن، متجشماً للصعاب ابتغاء مرضات الله تعالى، وحفظاً للأمة الإسلامية والمجتمع الإسلامى من الانحراف عن الطريق القويم.
وتنوعت حياته فى أرض مصر بين عدة أمور هى:
1- التعليم والفتوى: ‘‘ فلما بني السلطان مدرسة الصالحية المعروفة بالقاهرة فوض تدريس الشافعية بها إلى الشيخ عز الدين فباشره وتصدى لنفع الناس بعلومه، ولما استقر مقامه بمصر أكرمه حافظ الديار المصرية وعالمها: عبد العظيم المنذري()، وامتنع عن الفتيا، وقال: كنا نفتى قبل حضور الشيخ عز الدين، وأما بعد حضوره فمنصب الفتيا متعين فيه ’’().
وهذا من أدب أهل العلم الذي ينبغي أن يكون بينهم من المحبة والإجلال لبعضهم والتواضع ومعرفة كل عالم ومتعلم لمنزلة صاحبه وقدره وهذا ما فعله الإمام المنذري مع الإمام العز بن عبد السلام رحمهما الله.
· ومع غزارة علمه – رحمه الله – إلا أنه مما يحكى عنه أنه أفتى مرة بشىء ثم ظهر له أنه أخطأ فى فتواه، فبعث من ينادى فى مصر والقاهرة على نفسه أنه أفتى بكذا خطأ فلا يعمل به أحد.
2- الـخطابة والقضاء: فقد ولى الخطابة بجامع عمر بن العاص – رحمه الله، وولى قضاء مصر ثم الوجه القبلى.
3- الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: وللعز بن عبد السلام فى هذا الشأن مواقف محفورة فى ذاكرة التاريخ لا تمحى على تعاقب الأيام ومرور الأزمان، فقد كانت له مواقف مشهودة تدل على عظم الدور الذى قام به فى حياة المجتمع الإسلامى فى الفترة التى عاش فيها، ودروساً تتعلم منها الأجيال بعد ذلك. ومن هذه المواقف:
· أنه علم أن فخر الدين عثمان بن شيخ الشيوخ – وزير السلطان – بنى طبل خانات فوق المسجد، فمضى الشيخ بجماعة معه وهدمه.
وعلم أن الوزير والسلطان يغضبان فأسقط عدالة الوزير وعزل نفسه عن القضاء وظن الوزير أن هذا الحكم لا يؤثر عليه، فاتفق أن جهز السلطان رسولاً إلى الخليفة المستعصم() ببغداد فلما وصل الرسول إلى الديوان ووقف بين يدى الخليفة وأدى الرسالة خرج إليه وسأله: هل سمعت الرسالة من السلطان؟
فقال: لا، ولكن حملنيها عن السلطان ابن شيخ الشيوخ أستاذ داره.
فقال الخليفة: إن المذكور أسقط عدالته ابن عبد السلام فنحن لا نقبل روايته.
فرجع الرسول إلى السلطان حتى شافهه بالرسالة ثم عاد إلى بغداد ’’().
· وذكر أنه طلع مرة إلى السلطان فى يوم عيد والعسكر والجنود فقال: له يا نجم الدين الحانة الفلانية يباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب فى نعمة هذه المملكة.
يناديه كذلك بأعلى صوته والعساكر واقفون.
فقال: يا سيدي هذا ما أنا عملته.. هذا من زمن أبى.
فقال: أنت من الذين يقولون: ] إنا وجدنا آباءنا على أمة [().
فرسم السلطان بإبطال تلك الحانة ’’ ().
ولما سئل العز في ذلك: أما هِبْـته؟!
فقال: استحضرت هيبة الله تعالى فصار السلطان قدامى كالقط ’’().
· وكذلك كان له موقفه مع أمراء الدولة من الأتراك ‘‘ وهم جماعة ذكر أن الشيخ لم يثبت عنده أنهم أحرار، وأن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين، وكان من جملتهم نائب السلطنة. فاجتمعوا وأرسلوا إليه. فقال: نعقد لكم مجلساً وننادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عنقكم بطريق شرعي، فرفعوا الأمر إلى السلطان، فبعث إليه، فلم يرجع، فجرت من السلطان كلمة فيها غلظة، فغضب الشيخ وحمل أهله وحوائجه خارجاً من القاهرة قاصداً نحو الشام، فلحقه غالب المسلمين لا يتخلف أحد – لا سيما العلماء والصلحاء والتجار.
فبلغ السلطان الخبر وقيل له: متى راح ذهب ملكك. فركب السلطان بنفسه ولحقه واسترضاه وطيب قلبه فرجع، واتفقوا معه على أنه ينادى على الأمراء. فتم له ما أراد، ونادي على الأمراء واحداً واحداً، وغالى في ثمنهم، وقبضه وصرفه في وجوه الخير ’’().
· ومع جرأة العز – رحمه الله – وشجاعته إلا أنه كان داعية بحق يقدر لكل موقف ما يستحق.
% فمما ذكر ‘‘ أن السلطان – موسى بن الملك العادل – وهو فى مرض موته طلب من ابن عبد السلام زيارته فلما وصله ذلك قال: نعم هذه من أفضل العبادات. فتوجه إليه وسلم عليه، فسُرَّ السلطان برؤيته سروراً عظيماً، وقبل يد الشيخ، وقال: يا عز الدين اجعلني في حِلٍّ، وادع لي، وانصحني، وأوصني.
فقال له العز: أما محاللتك فإنى كل ليلة أحالل الخلق وأبيت وليس لى عند أحد مظلمة، وأرى أن يكون أجرى على الله.
وأما دعائى للسلطان فإنى أدعو له فى كثير من الأحيان لما فى صلاحه من صلاح المسلمين والإسلام.
وأما وصيتي ونصيحتي للسلطان فقد وجبت على.
ثم نصح السلطان أن يترك ما بينه وبين أخيه من خصومة ونزاع وعداوة، وأن يأمر بإعداد الجيوش لملاقاة التتار بعدما دخلت جيوشهم بلاد المسلمين، وأن يأمر نوابه بترك المحرمات ورفع المظالم.
ثم قال السلطان للعز: جزاك الله عن دينك وعن نصائحك وعن المسلمين خيراً، وجمع بيني وبينك في الجنة بمنه وكرمه.
وأطلق له ألف دينار مصرية، فردها الشيخ.
وقال: هذه اجتماعة لله لا أكدرها بشىء من الدنيا.’’()
وهكذا نجد للعلماء الربانين دورهم البارز حينما يقومون بالأمانة التي حملوها , ويؤدون الرسالة التي كلفوا بتبليغها للناس حكاما ومحكومين فيحفظون حياض الدين , وينصرون المستضعفين , ويردعون المعتدين, وتستجيب الأمة لهم حكاماً ومحكومين.
4- الـجهاد فى سبيل الله: فقد كان رحمه الله يحث المسلمين على الجهاد ويخرج معهم.
· فمما ذكر أن التتار لما دهمت بلاد المسلمين عقب واقعة بغداد وحين أهل مصرعهم وضاقت بالسلطان وعساكره الأرض ، استشاروا الشيخ عز الدين – رحمه الله – فقال: اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر.
فقال السلطان: إن المال في خزائني قليل وأنا أريد أن أقترض من أموال التجار.
فقال الشيخ: إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلي، وضربته سكة ونقداً وفرقته في الجيش، ولم يقم بكفايتهم ذلك الوقت اطلب القرض، وأما قبل ذلك فلا.
فأحضر السلطان والعسكر كلهم ما عندهم من ذلك بين يدي الشيخ، وكان الشيخ له عظمة عندهم وهيبة بحيث لا يستطيعون مخالفته، فامتثلوا أمره فانتصروا بفضل من الله تعالي().
· وذكر أيضاً أنه خرج مع الجيش لملاقاة الحملات الصليبية فى موقعة المنصورة، وأظهر الله على يديه الكرامات التى دفعت الجند للحماسة فى القتال().
فغزوات المغول والتتار والحملات الصليبية كان للشيخ – رحمه الله – دور مؤثر فى التصدى لها والمشاركة
فى إعداد الجيوش والخروج إلى الجهاد وساحات المعارك معهم.
5- التأليف والتصنيف: فمع كل الجهد الذى قام به العز بن عبد السلام – رحمه الله – فى ميدان الدعوة إلى الله فقد كانت له مؤلفات غزيرة تدل على إمامته ومنزلته فى علوم الدين منها: "القواعد الكبرى" و"مجاز القرآن" و"شجرة المعارف" و"الغاية فى اختصار النهاية" و"الإمام فى أدلة الأحكام" و"فوائد البلوى والمحن" و"الفتاوى الموصلية" و"الفتاوى المصرية" وغيرها الكثير من المؤلفات والكتب.
هذه لمحة سريعة عن شئ من حياة العالم الرباني سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله علها تكون أمام أعين الدعاة قدوة تقتفي وأسوة تحتذي بعدما غابت جوانب نتمني أن نراها ظاهرة دائما في العلماء والدعاة, حتي يقودوا الأمة إلي الله تعالي , وإلي خيري الدنيا والآخرة وتبرأ ذمتهم أمام ربهم يوم يلقونه